صحة حديث أعمار أمتي

صحة حديث “أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين” ودلالاته في ضوء السنة النبوية والواقع المعاصر

يُعد الحديث النبوي الشريف من أهم مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، إذ يُعبّر عن توجيهات النبي محمد ﷺ في مختلف مجالات الحياة، ويُعتبر مرجعًا هامًا في فهم العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات. ومن الأحاديث التي تناولها العلماء بالتحقيق والشرح حديث: “أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك”، وهو حديث ورد بعدة صيغ في كتب السنن والمسانيد. يُثير هذا الحديث اهتمامًا بالغًا نظرًا لارتباطه بطول العمر، وهو موضوع يُشغل بال الإنسان منذ القدم، ويزداد الاهتمام به في العصر الحديث مع التقدم الطبي والدراسات السكانية.

تتناول هذه المقالة الحديث من عدة جوانب: من حيث الصحة الحديثية، دلالاته الفقهية والعقدية، علاقته بواقع الأعمار في المجتمعات الإسلامية قديماً وحديثاً، وأخيرًا المنظور الصحي والاجتماعي للعمر في الإسلام.

أولاً: تخريج الحديث ودرجته الحديثية

رُوي الحديث عن النبي ﷺ بعدة روايات، وأشهرها:

• عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك” رواه الترمذي (رقم 2331) وابن ماجه (رقم 4236)، وقال الترمذي: “حديث حسن غريب”.

• رواه أيضًا الإمام أحمد في مسنده (2/306) وابن حبان في صحيحه (رقم 6622)، والحاكم في المستدرك (4/352) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وقد صحّح الحديث عدد من العلماء، ومن أبرزهم:

• الحافظ الذهبي في “تلخيص المستدرك”

• الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم 757)

• الشيخ شعيب الأرناؤوط الذي حسنه في تعليقه على المسند

وبذلك فإن الحديث يُعد حديثًا حسنًا صحيحًا بمجموع طرقه، ولا مطعن في سنده يمنع من الاستدلال به.

ثانياً: المعنى العام للحديث ودلالاته

يتناول الحديث مسألة متوسط الأعمار في أمة الإسلام، ويشير إلى أن الغالب على أعمار المسلمين أنها تتراوح ما بين الستين إلى السبعين سنة، وأن من يتجاوز هذا العمر يكون قليلًا نسبيًا.

1. لا يُفهم من الحديث أنه حدٌ قطعي:

يجب التنبيه إلى أن الحديث لا يعني أن جميع أفراد الأمة أعمارهم محصورة قطعًا بين ستين وسبعين سنة، بل هو حديث يُخبر عن الغالب الأعم، بدليل قوله: “وأقلهم من يجوز ذلك”، أي من يتجاوز السبعين يكون قليلًا، ولكنه موجود.

2. لا يدل على تحجير العمر أو تحديد الأجل:

الأعمار والأرزاق بيد الله وحده، ولا يمكن تحديدها بدقة مطلقة، قال تعالى:

{وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34].

3. لا يتعارض مع طول أعمار بعض الصالحين:

ثبت أن كثيرًا من الصحابة والتابعين، بل حتى المعاصرين، تجاوزوا السبعين والثمانين والتسعين والمائة. ومنهم الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي عُرف بطول عمره، حتى جاوز المائة على ما قيل. والحديث لا ينفي ذلك، بل يؤكد أنه أمر استثنائي.

ثالثاً: الحكمة من تحديد الأعمار بهذا النطاق

1. التنبيه على قِصَر الأمل:

من الحكم المستفادة من هذا الحديث أن المسلم لا ينبغي أن يُطيل الأمل في الدنيا، فمتوسط العمر لا يتجاوز السبعين، وبالتالي فعليه أن يغتنم شبابه وصحته وعمره قبل فنائه، وقد قال النبي ﷺ في حديث آخر:

“اغتنم خمسًا قبل خمس…” وذكر منها: “حياتك قبل موتك”.

2. الحث على المبادرة إلى الطاعات:

معرفة أن العمر غالبًا لا يتعدى السبعين تدفع العاقل إلى المسارعة إلى الأعمال الصالحة، وترك التأجيل والتسويف، فالعمر محدود، والفرص قد لا تتكرر.

3. تنبيهٌ على فضل العمل في سن الشباب:

الفترة ما بين البلوغ وسن الستين غالبًا ما تكون هي الفترة الذهبية للعمل والعبادة والإنتاج، لذا ركز الإسلام على استغلال هذه المرحلة في التزود للآخرة.

رابعاً: مقارنة عمر الأمة الإسلامية بالواقع السكاني والإحصائي

الحديث يشير إلى الأعمار المتوسطة في زمن النبي ﷺ، حيث كانت الحياة أبسط من الناحية الطبية، ولا تتوفر الرعاية الصحية المعاصرة. ولكن:

أ. الأعمار في زمن الصحابة:

كان كثير من الناس يموتون في الأربعينات والخمسينات نتيجة الحروب، الأمراض، أو غياب وسائل العلاج، ومع ذلك نجد نماذج ممن طال أعمارهم كأنس بن مالك، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب.

ب. الأعمار في العصر الحديث:

وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) وبيانات البنك الدولي، فإن متوسط العمر المتوقع حاليًا في الدول الإسلامية يتراوح بين:

وهذا يتفق نسبيًا مع مضمون الحديث، حيث يظل العمر المتوقع في حدود السبعين، بالرغم من التقدم الصحي والطبي، مما يُعزز الإعجاز الإخباري في كلام النبي ﷺ.

خامساً: فقه الحديث وآثاره على الفقه العملي والاجتماعي

يتضمن الحديث فوائد فقهية ومجتمعية وعقدية، منها:

1. حكم من بلغ الستين:

من بلغ الستين فقد أعذر الله إليه، كما جاء في الحديث الآخر:

“أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ الستين” [رواه البخاري].

أي لم يبق له عذر في التقصير، فعليه أن يتدارك ما مضى ويستعد لما هو آتٍ.

2. لا يُكره طلب طول العمر:

ليس في الحديث ما يُفهم منه كراهية طول العمر، بل ثبت أن النبي ﷺ كان يحب أن يُعمر الإنسان إن كان في عمره خير، كما قال:

“خير الناس من طال عمره وحسن عمله” [رواه الترمذي].

وبالتالي، طول العمر مع حسن العمل نعمة عظيمة، والعبرة ليست بعدد السنين، بل بما يُنجز فيها.

3. تقويم النظرة الاجتماعية إلى المسنين:

الحديث يلفت إلى أهمية مرحلة الكهولة والشيخوخة، وأنها مرحلة طبيعية في حياة الإنسان، ولا ينبغي أن يُنظر إليها بنظرة دونية، بل هي مرحلة تُستثمر في الخبرة، والتعليم، والعبادة، والتقرب إلى الله.

سادساً: المنظور الصحي والعلمي للعمر في الإسلام

الإسلام لم يربط الكرامة أو القيمة بطول العمر، بل ربطها بـ التقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى:

{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13].

ومع ذلك، حث الإسلام على المحافظة على الصحة والعافية باعتبارها من أعظم النعم، فقد قال النبي ﷺ:

“نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” [رواه البخاري].

وقد توافقت الشريعة مع العلم الحديث في الدعوة إلى:

• الاعتدال في الأكل والشرب

• النشاط البدني

• الحفاظ على الصحة النفسية والاجتماعية

• الابتعاد عن مسببات الأمراض

وكلها وسائل تؤدي – بإذن الله – إلى إطالة العمر الحسن لا العمر العبثي.

سابعاً: نماذج من الصحابة والتابعين الذين جاوزوا السبعين

رغم أن الحديث يتحدث عن المتوسط، فإن التاريخ الإسلامي حافل بأسماء عاشوا بعد السبعين وكان لهم أثر بالغ، ومنهم:

• أنس بن مالك: عاش أكثر من 100 سنة على أقوال العلماء.

• الحسن البصري: توفي عن عمر ناهز 88 سنة.

• سعيد بن المسيب: توفي عن عمر يقارب 75 سنة.

• عبد الله بن عمر: توفي عن نحو 84 سنة.

وكل هؤلاء كان لهم أثر علمي ودعوي واجتماعي كبير حتى في كبر سنهم.

الخلاصة

حديث النبي ﷺ: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك” هو حديث صحيح في مضمونه وسنده، ويُعبّر عن سُنّة إحصائية قدرية غالبية لا حتمية، تؤكد أن الغالب على أعمار المسلمين يتراوح في هذا الإطار. يحمل هذا الحديث في طياته دلالات عظيمة تتعلق بإدراك قِصَر الأمل، والحث على استثمار الوقت، وتقدير قيمة العمر، كما ينسجم مع بيانات الإحصاء المعاصرة رغم فارق الزمان.

لا يمنع الحديث من وجود من يُعمر طويلًا، بل يشير إلى أن هذا نادر، لكنه موجود. كما لا يحمل نبرة تشاؤمية، بل هو تنبيه إلى أن الحياة قصيرة ولا تستحق الغفلة، ومن ثم فعلى المؤمن أن يغتنم كل لحظة في طاعة الله، والعمل الصالح، وبناء الذات والمجتمع.

المراجع:

1. السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية.

2. السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.